تتبدى المفارقة موجعة حتى الجرح بین حجم التأیید الدولی لهذه الحرب الإسرائیلیة بقرارها الأمیرکی المعلن على لبنان، والتی ندخل جحیم یومها الثانی والعشرین، وبین الغیاب العربی المفجع والذی لا یمکن التعامل معه ببراءة تستند إلى واقع العجز، بل لا بد من الاشتباه بالتواطؤ ولو متستراً ببیانات الشجب والاستنکار، وهی قلیلة ورکیکة النصوص..
ولعل ما یؤکد هذا الاشتباه ویفضح التواطؤ "اطمئنان" الإدارة الأمیرکیة إلى موافقة عربیة ضمنیة على قرار الحرب التی احتفظت بشرف إعلانها کما مدت فترة السماح بتزخیمها، السیدة کوندلیسا رایس ومن مکتب وزیر الدفاع الإسرائیلی فی القدس المحتلة، مباشرة.
هی حرب إسرائیلیة بقرار أمیرکی له هدف معلن: استیلاد الشرق الأوسط الجدید.
ویفترض أن هذا الهدف المعلن یمس الدول العربیة جمیعاً، مشرقاً ومغرباً، مَن کان مِن مسؤولیها فی زیارة واشنطن قبل أیام، لتطمین الذات، أو زارها لاستعدائها على "خصومه" من أهله، أو مَن راسلها أو بعث إلیها بمن یشجعها على دعم إسرائیل للتخلص من هؤلاء الفتیة المتطرفین والمشاغبین الذین یلعبون لعبة الحرب بغیر درایة!
مع ذلک، فقد استقبلت بیروت العدید من المسؤولین الغربیین، أبرزهم السیدة رایس التی أبلغتنا الإنذار بتدمیر لبنان تدمیراً کاملاً، وبینهم رئیس الحکومة الفرنسیة ووزیر خارجیتها الذی جاء ثلاث مرات، والبعثة الخاصة التی أوفدتها الأمم المتحدة، والمسؤول الأعلى لخارجیة الاتحاد الأوروبی، والبعثة الأوروبیة التی تضم ثلاثة من وزراء خارجیة الاتحاد الأوروبی وأخیراً ولیس آخراً وزیر خارجیة جمهوریة إیران الإسلامیة.
لکن أحداً من المسؤولین العرب لم یتفضل على لبنان بزیارة تضامن أو تعاطف أو تفقّد... علماً بأن إسرائیل قد "سمحت" لطائرات الموفدین الأجانب، کما لطائرات المساعدات العربیة، بأن تهبط فی مطار رفیق الحریری الدولی فی بیروت، أو بمطارات الحوامات التی أقیمت خلسة، وأشهرها الذی فی عوکر.
ومع الترحیب بالزیارة الموعودة الیوم لوزیر خارجیة مصر العربیة، فلا بد من التنویه بأنها الأولى، مع التمنی بألا تکون آخر زیارة لمسؤول عربی، لا سیما مع "الوعد" الإسرائیلی بألا یطل الصبح على لبنان إلا وقد انفتحت علیه أبواب جهنم، لتکمل تدمیره ساحلاً وجبلاً، سهلاً وبحراً، جنوباً وشرقاً وشمالاً، بمرافقه المتبقیة جمیعاً، ومؤسساته التی أمکن استنقاذها حتى الآن کالمستشفیات ودور رعایة العجزة!
وتقضی أصول المصارحة أن نجهر بعتاب الأمین العام لجامعة الدول العربیة عمرو موسى، الذی نقدّر مواقفه القومیة، وشجاعته الشخصیة التی دفعته لأن ینعى "عملیة السلام"، المیتة منذ زمن بعید، ومراراته التی تتکاثف یومیاً مع شعوره بالخذلان نتیجة لتخلی "الدول" العربیة عن أبسط الواجبات التی تبرّر انتماءها للجامعة، بل وتبرّر وجود هذه المؤسسة العریقة المعطلة قصداً، لمحو آثار أی جهد عربی مشترک..
کان یکفی لبنان منه، بالذات، أن یأتیه فی زیارة تفقّد واطمئنان إلى ما تبقى من البلد الذی یحب ومَن تبقّى فیه... لکن ظروفه أقسى من أن تعالج بالعتاب.
المهم، إن لبنان یتقبّل منذ أیام قوافل المساعدات الإنسانیة التی تتدفق علیه من الدول العربیة (فضلاً عن الأجنبیة) بکثیر من الشکر والامتنان، لا یفوقهما إلا شعوره الممض بالحزن والوجع کون هذه "الدول" قد حوّلت ذاتها إلى ما یشبه مؤسسات الإغاثة والنجدة السریعة کالصلیب الأحمر الدولی أو الهلال الأحمر (الإسلامی) أو کاریتاس أو أطباء بلا حدود..
بل إن بعض بعثات الإغاثة التی أوفدتها هذه "الدول" إلى جهات منکوبة بالزلازل أو بالطوفان کان یرأسها أمیر أو وزیر، إلا لبنان..
وعلى احتیاج مئات الألوف من اللبنانیین الذین شرّدتهم الحرب الإسرائیلیة من دیارهم وبیوتهم بعدما دمّرتها وقطعت أوصالها وعطلت أسباب الحیاة فیها، واستسهلت ارتکاب المذابح ضد المدنیین، بعدما أعجزتها مواجهة المجاهدین من رجال "حزب الله"، إلى المؤن والأسرّة النقالة والمعلبات والأمصال والأدویة إلخ.
.. إلا أن المواطن فی لبنان کان یتمنى لو أن هذه "الدول" أکدت حضورها الفاعل، ودائماً فی السیاسة ولیس فی مواجهة إسرائیل بالقتال، لکانت أغنته عن "الصدقة"، وأغنت نفسها عن تأکید غیابها الفاعل سیاسیاً بحضور مساعداتها الإنسانیة التی على ضرورتها لا تشبع الشوق إلى الإحساس بصدق الأخوة، والحصانة التی یوفرها الانتماء، والکرامة التی شربنا حلیبها مع العروبة.
أیها الإخوة العرب: نحن بخیر، طمنونا عنکم!
نحن بخیر، وعروبتنا بخیر، وبدمائنا سنحفظ أیضاً عروبتکم، ولو برغم أنوف "دولکم".. التی کلما تزاید عددها نقصت قیمتها.
